الدكتورة هند العلي

أنا لستُ مجرد شخص يشتاق، أنا حالة من الشوق المزمن، حالة من الحنين الذي لا يهدأ، ومركزه رجل واحد: أبي.

هذا الشوق ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو ثقل وجودي أحمله كل يوم. أحبه، نعم، أحبه بطريقة تجعلني أفتقر حتى إلى رفاهية أن أنشر حالة بذكرى وفاته. فالحزن العميق لا يحتاج إلى إعلان، والخسارة الكبرى لا تُختزل في منشور عابر. هي تسكن في الصمت، في زوايا الروح المعتمة، حيث لا يجرؤ أحد على الاقتراب.

التساؤلات الوجودية: هل كان لي أن أكون آخر؟

في كل أزمة أمر بها، وفي كل صفعة أتلقاها، يرتد السؤال إلى صدري كصدى مؤلم: هل وجوده كان من الممكن أن يغير مني؟ هل كان سيقف حاجزًا بيني وبين كل هذا الخذلان الذي تلقيته من القريب والبعيد؟

أصبحتُ أعيش في منطقة رمادية من التساؤلات: هل كل أوجاعي بسبب عدم وجود أب؟ هل هذا الفراغ الأبوي هو الثقب الأسود الذي يبتلع كل محاولاتي للثبات؟ ربما لا أملك الإجابة اليقينية، لكنني أملك الشعور بأن غيابه ترك فراغًا لم يملأه شيء، فراغًا جعلني أبحث عن الأمان في أماكن خاطئة، أو ربما في وجوه عابرة.

البحث عن الأب في وجوه الغرباء

هذا الفراغ دفعني إلى البحث عن الأبوة في كل مكان. أرى في كل رجل مسن أبًا، أتمنى لو كان أبًا لي. هي ليست خيانة للذكرى، بل هي محاولة يائسة من الروح لترميم ما انكسر، للبحث عن ذلك الحنان، تلك النصيحة، ذلك السند الذي لم يُكتب لي أن أعيشه.

أصبحتُ أتعامل مع العالم بعينين تبحثان عن ظل أبوي، عن كلمة حانية تعوض سنوات من الغياب. هذا البحث المستمر هو بحد ذاته إرهاق، لأنه يذكرني في كل مرة بأن ما أبحث عنه قد رحل ولن يعود

التفاني المؤلم: حين يصبح العمل مرآة للألم

أما في عملي، فالمعركة مختلفة وأكثر قسوة. كلما تعاملتُ مع مريض، أتذكر أوجاعي وأتذكر معاناتي. يصبح المريض مرآة تعكس ألمي الخاص، ولهذا أبذل أقصى وأقصى من جهدي، ليس فقط من أجل المريض، بل كنوع من الكفارة عن عجز ما شعرت به تجاه نفسي أو تجاه من أحببت.

هذا التفاني الجنوني، الذي ينبع من عمق الجرح، يستهلكني جسديًا. أعاني جسديًا من المجهود، وفي المقابل ينعتني المحيطون بالجنون. لا يدركون أن هذا الجنون هو آلية البقاء الوحيدة، هو طريقتي في تحويل الألم إلى فعل، في إثبات أنني قادرة على العطاء حتى لو كان العالم قد خذلني.

شهادة صمود

أنا لستُ مجرد مشتاقة، أنا ناجية. ناجية من غياب مؤلم، وناجية من أزمات متتالية، وناجية من احتراق نفسي وجسدي. هذا الشوق، وهذا الألم، وهذا التفاني، كلها تشكلني. سأظل أبحث عن أبي في كل زاوية، وسأظل أمنح كل جهدي لمن يحتاج، لأنني أدرك قيمة السند الذي لم أجده.

وفي النهاية، سأبقى أنا، الشاهدة على أن الحب الحقيقي لا يموت، وأن أقسى أنواع الشوق هو ذلك الذي لا يملك حتى رفاهية الإعلان.

اترك تعليقاً