بقلم التشكيلية / مها زغلول
الفنان التشكيلي سعيد العلاوي الذي يغزل التراث بخيوطٍ الفن، لا يعيش في زمنٍ واحد، بل في تداخل الأزمنة .
في أعماله، لا تعود البيوت بيوتًا، ولا النخيل نخيلًا، بل تتحوّل إلى إشاراتٍ خفيّة من ذاكرة الأرض، واللون إلى رمز ، أعمال الفنان سعيد علاوي التشكيلية تتنفس في إيقاعٍ لونيّ يتجاوز الإدراك المباشر. فالأشكال عنده ليست محاكاة للواقع، بل ترجمة حسّية لجوهرٍ روحيّ يسكن الأشياء. إنّه لا ينقل المشهد، بل ينقل الروح التي كانت تراه إلى بصمته الفنية ،
تقوم فلسفته الفنية على إعادة اكتشاف التراث بوصفه طاقة لا تنفد، لا كرمزٍ ساكن في المعارض وغيرها ، بل ككائنٍ نابض في الحاضر. هو يؤمن بأن الهوية ليست قالبًا، بل طيفٌ متحرّك بين التجربة والخيال، وإنارة للحداثة.
في لوحاته، تتجاور الرموز الشعبية مع هندسة التجريد في توازنٍ بصريّ يشبه توازن الذاكرة مع الحلم ، والألوان تتذكّر أكثر مما تُظهر. الأصفر يتحدّث بلهجة الرمل القديمة، الأزرق يُعلن عن سرٍّ دفين في الأفق، والأحمر ينبض كقلب الحكاية حين تُروى بصمت. كلّ لونٍ عنده شهادة وجود، وكلّ شكلٍ أثرٌ لشيءٍ غاب لكنه لم يمت.
هذا الفنان لا يرسم التراث كموضوع، بل يعيش داخله كحالةٍ فلسفية. يراه بوصفه مرآةً للزمن الإنساني، ومن خلال أعماله يفتح حوارًا عميقًا بين الإنسان وماضيه، إنه لا يسجن التراث في الرموز، بل يطلقه في فضاءٍ يتّسع لكلّ الأزمنة.
هكذا يصبح عمله الفني نوعًا من التأمل البصري، رحلةً في المعنى لا في الصورة، وعودةً نحو الأصل لكن بخطى المستقبل.
التراث في عينه ليس ماضياً جامداً، بل طاقة رمزية تتحرّر من شكلها الأصلي لتتحوّل إلى لغة لونية وموسيقية. فالبيت الطينيّ يصبح كتلةً هندسيةً ، والنخلة تتحوّل إلى تردّدٍ أخضر في صدى الحداثة ،
فلسفة فنه تقوم على المصالحة بين “الذاكرة” و”اللاوعي الجمالي”؛ إذ يتحوّل الرمز الشعبي إلى قراءة مفتوحة على احتمالات التأويل، فكلّ مثلثٍ أو مستطيلٍ صغير في اللوحة ليس مجرد شكلٍ زخرفي، بل بابٌ بصريّ نحو المعنى المخفي في البساطة الأولى، نحو اللغة التي تحدّث بها الإنسان مع الطبيعة،
في عالم هذا الفنان، اللون ليس أداة تزيين، بل هو ذاكرة تتوهّج. الأصفر يُعيد دفء الرمل ، والأحمر يستحضر نبض الدم في الحكايات القديمة، والأزرق يذكّر بنقاء السرّ قبل أن يُقال. كلّ لونٍ يحمل صوتًا داخليًا، يهمس بأنّ الجمال ليس في الشكل بل في الصدى الذي يتركه الشكل في الروح.
هكذا يولد التراث في عالمه كطيفٍ من المعاني، لا كظلٍّ من الماضي. هو يرسم ليجعل الذاكرة أكثر حرية، وأن الفنّ هو الذاكرة حين تحلم، والهوية حين تتجاوز نفسها لتولد من جديد في كل ضربة فرشاة.