بقلم /د.ظافرة القحطاني

أشعر بضجر مميت .
أسير عابسة وقد أمسكت حقيبتي في يدي ..
آه لقد قالت لي الممرضة إن هناك مريضة في الخامسة والعشرين من عمرها ..
وأنها تصرخ على نحو موصول ، لا أعلم لمَ هي تصرخ . ؟
الفحص الإكلينيكي أثبت أنها لا تعاني من أي مرض ..
ورغم ذلك فقد كانت تصرخ
قال لي الدكتور حاتم : –
اعرفي ما بها يا أمل ..
ترى ماهو دورك أنت أيها الأخصائي الكبير ..
أمقته و أمقت غروره ،
رأيتها تجلس القرفصاء على الأرض في أقصى زاوية الغرفة ..
هادئة كالأموات ، لكنها لم تكن تصرخ ..
رأسها منكس الى الأرض ..
شعرها كث من الواضح أنه لم يُعتنى به منذ زمن بعيد ..
طرقت الباب .. رفعت رأسها ، نظراتها شاردة .. إنها لا تراني .. رغم أنها كانت تنظر إلى عيني .
اقتربت منها ، لمست كتفها صرخت بوحشية ، لعابها يسيل ، وجهها يمتليء بأوردة وشرايين متضخمة …
يجب أن أعيد التحاليل مرة أخرى ..

جلستُ على الأرض بجوارها ..وبدأ صراخها يهدأ ..
كان اسمها مها ..
كررت إسمها كثيراً ولكنها لم تكن تسمعني ..
صفقت بيدي في قوة ولازالت لا تراني لكنها تزمجر ..
أمرت بإعطائها محلول .. سيرترالين (SER traleen) كي تهدأ …
ذهبت غاضبة إلى الدكتور حاتم وقلت له : –
لماذا لم أعط صورة واضحة عن المريضة ..
هنا أخرج ملف من درج مكتبه
قرأت الملف ، وهالني أن أعرف .. أن مها بنت جميلة أحبت شاب كان حلمها الحقيقي .. ،
غرر بها الشاب واعتدى عليها في غفلة من أهلها ،
طلبت هي منه أن يصلح غلطته ويتزوجها ، قالت له :-
أن والدها سيقوم بذبحها عندما يعرف ..
لكنه قال ببرود : – كيف أتزوجك مجنونة أنتِ ..
قد يفعل معك آخرون ما فعلته أنا …
هي لم تستطع أن تخبر أحداً ،
لم تستطع ..
أحزنها هذا الأمر وأكلت عشرين قرص من أقراص ( البنادول Panadol ) ..
وقد تم نقلها إلى المشفى ذلك المساء ..
ما لبثت أن صارحت الأخصائية الإجتماعية بقصتها وطلبت منها أن لا تخبر أحداً ..
كانت مريضة خائفة تذوي قليلاً قليلاً ..
لم تكن تتحدث مع أحد ..
استدعيت والديها .. أخبراني أنها فجأة مرضت .. وحاولت الانتحار ..
أخبراني أن الجميع يقول أن هناك شيطان يسكنها ..
قال والدها :-
توافد الكثير من الرجال على منزلنا يقرأون عليها ..
واتفق المقرؤون جميعهم أنها تعاني من روح شريرة دخلتها ..
ولقد كان أشرسهم يقوم بخنقها فتصدر أصوات حشرجة بصوتها بعد أن يتضخم صوتها نتيجة الضغط على الشريان السباتي ..
والذي بالضغط عليه ، يصاب الشخص بالاغماء وقد يموت
ولكنه يفسر الصوت على أنه صوت ذلك الشيطان الذي يسكنها وانه لن يخرج ..
وأحياناً كان يضربها ضرباً مبرحاً ولم تكن تتحرك ..
لقد قررت أن تموت
حقيقةً بكيت
ماهذا الجهل
مها لم تعد ترغب في الحديث مع أحد ورويداً رويداً مرضت وفقدت الإهتمام بكل شيء
والداها أحضراها إلينا في المشفى ..
لقد توقفت عن الأكل والشرب وبدأت تصاب بتشنجات متكررة

في اليوم التالي ذهبت إليها وكانت معي وجبتين لي ولها
كانت تجلس على الأرض
كعادتها ..
جلست بجوارها ،
وأخذت أتظاهر بأنني أتحدث في الهاتف ..
في اليوم الأول لا توجد استجابة ولكن في اليوم الرابع نظرت إليّ
ورويداً رويداً تحدثت معي ..
قالت : –
أنها لا ترغب في الاستمرار في الحياة ،
وطلبت مني أن أساعدها على أن تموت ووعدتها ..أن أساعدها ..
ولكن أولاً عليها أن نتناول الطعام معي ..
وبعد اسبوع كانت تتجول في المشفى ، ولقد نظفت جسمها ورتبت شكلها …
ساعدتها على أن تدور في أروقة المشفى ..
رغم عدم موافقة المشفى على خطتي العلاجية ولكنني استمريت فيها مع التركيز على الفيتامينات والمهدئات
وذهبنا لنادي المشفى ، حيث رأيتها شغوفة بالرسم ،
كانت حريصة على أن تظل في نادي المشفى لساعات وساعات ترسم وترسم ..
بل إنها أصبحت تستكمل رسوماتها في غرفتها ..
شجعناها بشراء لوحاتها ..
فقد أظهرت براعة وموهبة خارقة في الرسم ..
رسوماتها كانت دموية .. مخيفة .
وتأخرت ذات يوم في النادي
وذهبت لتفقدها
كانت ترسم بتركيز شديد ووجه معروق ويد قوية تتشبث بقلم أسود ..

أنهت لوحتها ذلك المساء …
كانت تلك اللوحة وجه بلا ملامح ويدين ملوثة …
أواه ….
كانت قد أدخلت ذلك القلم الأسود في حنجرتها بشكل غائر

اترك تعليقاً