بقلم الكاتبة :نجاح لافي الشمري
يقال إنّ الزمن يمضي، لكنّ التاريخ لا يمضي أبدًا. فالتاريخ ليس مجرد سردٍ لما كان، بل هو الذاكرة التي تحفظ جوهر الإنسان في وجه العدم، والمرآة التي يرى فيها الحاضر ملامحه الأولى. إنّ اللحظة العابرة قد تذوب في مجرى الأيام، لكنّ أثرها، حين يلامس الوعي الإنساني، يتحوّل إلى تاريخ… إلى بقاءٍ من نوعٍ آخر.
الفلسفة تُعلّمنا أنّ الوجود لا يُقاس بالمدة، بل بالمعنى. فكم من حياة قصيرة خُلّد أصحابها لأنهم صنعوا فكرة أو أطلقوا شرارة تغيّر، وكم من قرونٍ مرّت دون أن تترك أثرًا لأنها خلت من المعنى. هكذا يصبح التاريخ في جوهره فعلَ وعيٍ، لا مجرد مرورِ وقت. إنّه محاولة الإنسان الدائمة لتحدّي النسيان، ليقول للزمن: «لن تمحوني ما دمتُ أروي قصتي
وليس التاريخ مجرد ماضٍ نقرأه، بل حاضرٌ نعيشه ومستقبلٌ نُنشئه. فحين نُدرك أن كلّ فكرة نؤمن بها وكلّ قرارٍ نتّخذه سيغدو يومًا ما جزءًا من ذاكرة العالم، نزداد مسؤولية ووعيًا. إنّ بقاء التاريخ ليس في الحجارة أو المخطوطات، بل في الإنسان الذي يُجسّد القيم، ويورّث التجارب، ويمنح الوجود صوته.
التاريخ يبقى، لأن الإنسان بطبيعته كائنٌ يسعى إلى الخلود. يبقى في الكلمة، في الأثر، في الفكرة، في الذاكرة الجمعية. والتاريخ، بهذا المعنى، ليس ما مضى، بل ما لم يمت بعد.
ولعل أعظم ما في التاريخ أنّه لا يرحم الغفلة. فهو يكتب بأقلامٍ خفية، لا تلتزم بالمنطق ولا بالعدالة كما نراها نحن، بل تلتزم بالحقيقة كما هي. كم من أبطالٍ سقطوا في لحظتهم، لكنّهم انتصروا في الذاكرة. وكم من طغاةٍ مجّدهم الناس يومًا، ثمّ محاهم وعي الأجيال كأنّهم لم يكونوا. فالتاريخ، في نهاية الأمر، ليس ما يُكتب في الكتب، بل ما يبقى في الضمير الإنساني.
إنّنا عندما نقرأ التاريخ، لا نقرأ الآخرين فقط، بل نقرأ أنفسنا في مرآة الزمن. نرى ضعفنا وشجاعتنا، أنانيتنا ونبلنا، سقوطنا ونهوضنا. فالتاريخ يذكّرنا بأنّ الإنسان واحد في كل العصور، تتغيّر أدواته، لكن جوهره يبقى هو ذاته؛ ذلك الكائن الباحث عن معنى بين الفناء والخلود.
ولهذا، فإنّ بقاء التاريخ ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية. من لا يملك ذاكرة، لا يملك هوية، ومن لا يتأمل ماضيه، يعيد أخطاءه في كلّ مرة بثوبٍ جديد. التاريخ لا يُعلّمنا فقط «ماذا حدث»، بل «لماذا حدث»، و«كيف يمكن ألّا يحدث مجددًا
إنّ بقاء التاريخ ليس مجرّد استمرارٍ للوقائع، بل استمرارٌ للوعي الإنساني في مواجهة العدم. فحين يُمحى الإنسان جسدًا، يظلّ أثره شاهدًا على مروره في هذا العالم، كأنّ الوجود يرفض أن يُطفئ جذوة من حمل المعنى. في كل حجرٍ منقوش، في كل كلمةٍ مكتوبة، في كل فكرةٍ وُلِدت من رحم المعاناة — يتجلّى حضور الإنسان وقدرته على أن يصنع من العابر خلودًا.
ولذلك، فإنّ أعظم انتصار يحقّقه الإنسان ليس أن يعيش طويلًا، بل أن يترك في الزمن أثرًا يرفض الزوال. قد يكون هذا الأثر فكرة تغيّر وعيًا، أو موقفًا يوقظ ضميرًا، أو تضحيةً تهزّ جدار الصمت. فالتاريخ لا يُقاس بما نملكه، بل بما نُقدّمه للحياة من معنى.
التاريخ يبقى لأنّ الإنسان لا يستطيع العيش بلا ذاكرة، ولا يستطيع أن يفهم ذاته دون أن يطلّ على ماضيه. فكلّ لحظةٍ منّا تحمل في داخلها آثار العصور، وكلّ فكرةٍ تُولد اليوم ستغدو غدًا صفحةً في كتاب البقاء. إنّنا جميعًا، بطريقةٍ ما، نكتب التاريخ — سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه.
وفي النهاية، حين تنطفئ الأجساد وتذوب الحضارات، سيبقى في صميم الوجود ذلك الصدى الهادئ الذي يقول: لقد كنّا هنا. وقد تركنا أثرًا.
وهكذا، يبقى التاريخ.