فاطمه الحربي

هناك لحظات لا يراها البصر، لكنها تُسجَّل في الأعماق كأنها طعنات صامتة أو ومضات نور خاطفة. نعيشها، ونمر بها، ثم نغفل عنها وكأنها لم تكن… حتى يأتي يوم تنقشع فيه الغشاوة، فتُبصر القلوب ما لم تدركه العيون يومًا.

القلوب تُبصر حين تنكشف لنا خفايا لم نكن نصدقها: ابتسامة كانت تحمل سخرية، يد امتدت بالسلام لكنها كانت تخفي سكينًا، كلمة قيلت لنا بحنان بينما كانت مرسومة على لسانٍ بارع في الخداع. كل هذا مرَّ أمامنا، ولم نلتقط الإشارة، لأن العيون ترى ظاهر الأشياء فقط… أما البصيرة فترى جوهرها.

الغريب أن القلوب لا تُبصر إلا متأخرًا. كأن الحقيقة تختبئ عمدًا حتى ينضج العقل، أو يلين القلب بعد كسر، أو ينهار جدار كنا نحتمي خلفه. حينها فقط نكتشف أن ما كنا نظنه حبًا كان وهمًا، وما حسبناه صدقًا كان تمثيلًا، وما اعتبرناه ضعفًا فينا كان في الحقيقة حكمة غابت عن توقيتها.

الناس يظنون أن الغموض في العالم خارجهم، في الأحداث الغريبة أو الأقدار المجهولة، لكن اللغز الحقيقي يسكن داخلنا. ما الذي يجعلنا نصدق الكذب ونكذب الصدق؟ ما الذي يعمينا عن العلامات الواضحة، ثم يوقظنا فجأة بلا سابق إنذار؟ إنها حكمة مخفية، لا نفهمها إلا حين نتجرع الخسارة أو نصطدم بالخذلان.

وعندما تُبصر القلوب، لا يعود شيء كما كان. نصبح غرباء بين تفاصيل كنا نألفها، نقرأ الملامح بنسخة أوضح، ونسمع النبرة في صوت الآخر كأنها تفضحه. لا شيء يظل بريئًا، لكن لا شيء أيضًا يظل مظلمًا. هي لحظة ولادة جديدة، ولادة بعين ثالثة ترى ما وراء السطور، وتكشف اللغز الذي كان يختبئ في قلب الحكاية.

ولعل أجمل ما في الأمر أن هذه البصيرة ليست هدية تُمنح للجميع، بل امتحان يُكتب لنا في وقت محدد. من صبر على غفلته حتى النهاية خسر، ومن التقط إشارات قلبه عاش بنور لا ينطفئ.

فالقلوب تُبصر… لكن السؤال الذي يبقى معلقًا: هل سنحتمل الحقيقة حين تُفتح أعيننا عليها، أم سنغلقها من جديد خوفًا من وضوحها

اترك تعليقاً