د. وسيلة محمود الحلبي
بأجواء من الفخر والاعتزاز، احتفلت كلية لاين للغات كيرلا – الهند بتخريج فوج جديد من طلابها، في حفل مميز حضره الأساتذة والطلبة وأهالي الخريجين. وعلى رأسهم الدكتور عبد الحفيظ الندوي، والأستاذ عبد السلام. اماناتي الأمين العام لمنظمة همسة سماء الثقافة بالهند وقد ألقت الدكتورة فاطمة أبو واصل إغبارية كلمة الافتتاح بعنوان “اكتساب مهارات اللغات: رحلة بين الدماغ والقلب والثقافة”، حيث تناولت الأبعاد المعرفية والثقافية والإنسانية لتعلّم اللغات، مؤكدة أن اللغة جسر يوحّد بين الفكر والوجدان والهوية.
واختتمت الدكتورة كلمتها بتهنئة الخريجين، داعيةً إياهم إلى أن يحملوا رسالتهم العلمية بثقة وإبداع، وأن يكونوا سفراء للمعرفة والثقافة في مجتمعاتهم والعالم
وقالت في كلمتها: إنه لشرف كبير أن أكون بينكم اليوم، حتى وإن كان حضوري عن بُعد، لأشارككم هذه اللحظة المميزة في حفل تخرج أكاديمية لاين للغات. مناسبة كهذه ليست مجرد احتفال بانتهاء مرحلة دراسية، بل هي ولادة جديدة… لحياة أوسع، وأفق أبعد، ومسارات لا تنتهي من البحث والمعرفة والتجربة.
حديثي إليكم اليوم عن اكتساب مهارات اللغات، لكنه لن يكون بالمعنى التقليدي المألوف. لن أحدثكم عن “القراءة والكتابة والاستماع والتحدث” كما اعتدنا أن نصنّف المهارات، بل سأحاول أن أصحبكم في رحلة مختلفة، رحلة تكشف أن تعلم اللغة هو في حقيقته تجربة إنسانية شاملة، يدخل فيها الدماغ بقوانينه، والقلب بعاطفته، والثقافة بروحها.
المحور الاول: الدماغ ومرونته.
أود أن أبدأ من العلم. علم الأعصاب يخبرنا بحقيقة مذهلة: الدماغ البشري يمتلك قدرة هائلة على التكيّف وإعادة تشكيل نفسه، وهي ما يُعرف بـالمرونة العصبية (Neuroplasticity). هذه المرونة هي السبب في أن الطفل يتعلم لغته الأم بسرعة خارقة، فيلتقط الأصوات والإيقاعات والنغمات دون عناء. الطفل لا يدرس القواعد، ولا يحفظ القوائم، بل يعيش اللغة كما يعيش الهواء من حوله.
لكن هل يعني هذا أن الراشد محروم من هذه القدرة؟
الجواب: لا. الراشد يملك المرونة نفسها، لكنها تحتاج إلى مفتاح. والمفتاح هنا هو العاطفة والتجربة. حين ترتبط الكلمة بمشهد حي أو بذكرى شخصية، فإنها تُخزَّن في الدماغ عميقًا.
على سبيل المثال: من جرّب تعلم كلمة “مطر” بلغة جديدة، وهو يسمع صوت المطر يتساقط حوله، فإنه لن ينساها أبدًا. الدماغ يحفظ حين تشتبك الحواس مع المشاعر.
إذن، لا تكمن الصعوبة في العمر، بل في الطريقة. ولذلك أقول: اللغة لا تُدرَّس فقط، اللغة تُعاش.
المحور الثاني: اللغة كهوية وثقافة
دعونا ننتقل الآن إلى البعد الثقافي. اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، إنها هوية. إنها مرآة عميقة لروح المجتمع.
خذوا مثال كلمة “غربة” في العربية.لا توجد كلمة واحدة في الإنجليزية أو الفرنسية تختصر معناها. “المنفى – Exile ” أو “الغياب – absence” لا تنقل الألم، الحنين، الشعور بالاقتلاع من الجذور. الكلمة العربية تحمل تاريخًا وجدانيًا طويلًا.
وفي البرتغالية كلمة “Saudade. – سعوداد”، وهي خليط من الحنين والحزن والفراغ. لا نجد مقابلًا لها في لغات أخرى. وفي اليابانية كلمة “Wabi-sabi”، وتعني الجمال الذي يسكن النقص والقدم والاكتمال.
كل لغة إذن تحمل روحًا، تحمل رؤية للعالم، تحمل فلسفة في التعبير عن الإنسان. وحين نتعلم لغة جديدة، نحن لا نضيف مفردات فقط، بل ندخل إلى كون جديد، ونكتسب زاوية نظر مختلفة للوجود. لذلك أقول لطلابي دائمًا: تعلم لغة جديدة هو بمثابة أن تعيش حياة إضافية
المحور الثالث: استراتيجيات حيّة للتعلم
قد يسأل سائل: جميل هذا الكلام، لكن كيف نترجمه إلى واقع عملي؟
دعوني أقترح بعض الاستراتيجيات، ليست جديدة فحسب، بل مدعومة بالتجربة والأبحاث:
1. التعلم عبر القصة: لا تحفظ الكلمة منفردة، ضعها في جملة أو في حكاية قصيرة.: على سبيل المثال، بدل أن تحفظ كلمة “: “بدأت رحلتي في صباح ممطر.” القصة تمنح الكلمة حياة وذاكرة.
2. اللغة والحركة: اربط الكلمة بالفعل الجسدي. حين تقول “Open the door”، قف وافتح بابًا فعلًا. الدماغ يعشق هذا الربط بين الكلمة والجسد.
3. التعلم بالصدمة الثقافية الصغيرة: ضع نفسك في موقف غير مألوف. اطلب طعامًا بلغة جديدة، حتى إن أخطأت. هذا الموقف سيبقى في ذاكرتك أكثر من عشرة دروس نحوية.
4. التعلم بالعاطفة والموسيقى: استمع لأغانٍ بسيطة بلغة جديدة. اللحن يحمل الكلمات، ويثبتها في الذاكرة بطريقة سحرية.
5. التكرار الذكي: ليس الحفظ الميكانيكي، بل التكرار على فترات متباعدة، فيما يُعرف بـ” التكرار المتباعد”. هذه التقنية أثبتت فعاليتها علميًا.
هذه الاستراتيجيات تشترك في شيء واحد: أنها تجعل اللغة جزءًا من الحياة اليومية، لا مادة دراسية جامدة. فحين نتعلم لغة جديدة، نحن لا نُضيف قاموسًا جديدًا فحسب، بل نضيف روحًا جديدة إلى أرواحنا. نكتسب نافذة مختلفة نطل منها على العالم، ونُعيد اكتشاف أنفسنا بعيون الآخرين.
والآن، أنتم خريجو أكاديمية لاين للغات، لا تحملون شهادات فحسب، بل تحملون مفاتيح لجسور إنسانية، مفاتيح للتفاهم بين الشعوب، مفاتيح للحوار بدل الصدام.
إنني أهنئكم من القلب، وأهنئ أسركم التي شاركتكم الجهد، وأساتذتكم الذين كانوا منارات على دربكم. وأقول لكم: لا تتوقفوا عند هذه اللحظة، بل اجعلوها بداية.
لأن من يملك لغة يملك قلبًا، ومن يملك لغتين يملك قلبين، ومن يملك أكثر… فإنه يملك أرواحًا متعددة تسكنه.